الاثنين، 2 سبتمبر 2013


المطلب الأول: وسائل وإجراءات  عسكرية وأمنية.
أ‌)       نزع سلاح القبائل المغربية.
في تناولهم لهذا الإجراء ضمن تواريخهم، بالغ بعض الإخباريين المغاربة في تضخيم دوافعه ومستوياته[1]، وتجاوزتها في ذلك الكتابات الأجنبية، وقد وقفت إحدى الدراسات المتخصصة علي الكثير من أوجهها [2]. ولم تشد عن هذا النزوع كتابات مغربية معاصرة عديدة في تناولها للعهد الإسماعيلي، حيث طغت على مراجعها ضمنه الإحالة على الكتابات الكولونيالية المتحاملة[3].
ومهما يكن، فإن الأمر في الغالب كان يشمل قرار المنع من حمل أي سلاح ناري أو السعي لامتلاكه، وخاصة أن ما يمكن تسميته بسلاح القبائل كان لا يتعدى آنذاك عددا محدودا من بنادق "بوحفرة" التقليدية لدى كل فرقة، بينما شكلت الرماح والسيوف والخناجر والشواقير والفؤوس والهراوات والمقالع، السلاح الوحيد لأغلبية المحاربين[4].
كما أن المدافع كانت حكرا على الجيوش المخزنية، حيث تجعل أحجامها الضخمة وأثمانها المرتفعة من المتعذر على القبائل امتلاكها، سواء عن طريق التهريب أو الصنع المحلي. فضلا على أن المخزن، منذ العهد السعدي، كان لا يعطي قيادة هذا السلاح في جيوشه إلا لعناصر أجنبية كالعلوج والأتراك أو الأسرى المسيحيين[5]. وحتى المدافع التي كانت القبائل تغنمها من الجهاد البحري كان المخزن يجردها منها.  
 ويعرف أن القبائل التي استطاعت في بعض الأحيان الانتصار على المحلات المخزنية، كانت قد غنمت قبل ذلك بعض القطع المدفعية من الجيش المخزني نفسه، وهو ما حدث مثلا لقبيلة الشراردة التي هزمت المولى عبد الرحمان  بمدافع استولت عليها من جيش المولى سليمان[6].
وقد غاب في الكثير من هذه الكتابات، التطرق لوسائل عسكرية أخرى في قوامها، لكنها لم تكن تتطلب منه أي مجهود يذكر، حيث كانت تحقق للسلطان ما يرنو إليه من تهدئة القبائل العاصية، وإرغامها على دفع ضرائبها من زكوات وأعشار وكلف مخزنية. ومن ذلك (إن المخزن كان يعتمد في إظهار تفوقه على القبائل زيادة على السلطة الدينية والتفوق العسكري المتمثل في امتلاك الأسلحة التي يحتكر استيرادها وخصوصا المدافع، على استغلال نقطة الضعف الكبيرة للقبائل وهي النزاعات والأحقاد التي بينها ليستعين بقبيلة لإخضاع أخرى[7]).
أما ما يتعلق بذيول هذا الإجراء الإسماعيلي في المنطقة المسكينية، فلم تسعفني المصادر المعتمدة بأية إشارة عن وقوع شيء من هذا القبيل. وإلى أن يظهر ما يثبت عكس ذلك، فإنني أكاد استبعد أن تكون إحدى الفرق المسكينية قد تعرضت لأية حركة عقابية في هذا العهد. سيما وأن الإنخراط المبكر لنخبها السياسية والدينية في صف المولى الرشيد، ضد الدلائيين كان يهيئهم للإستفادة أكثر من التوقير والمؤازرة الإسماعيلية ضد أعدائهم من الجوار التادلي، أو من الرفد العيني لهم خلال أعوام المسغبة. وسيأتي في الفقرة الموالية ما يثبت ذلك من هذه الممارسات المخزنية. 
ب) أما ما كان ينسجم فعلا مع إرادة السلطان لتحييد قوة القبائل العاصية، فهو تجريدها من خيلها، ووضعها في عهدة قبائل أخرى لحساب المخزن. فضلا عن قيام هذا بإحلال فرق قبلية من خارج المنظومة المحلية بين ظهرانيهم، وتكليفها بمهام مخزنية كانت في الأصل موكولة إليهم[8].
وفي المصادر المغربية عن المرحلة، حشد كبير من الإجراءات السلطانية في هذين المجالين، وأكتفي منها على سبيل المثال لا الحصر، ما فعله بقبيلة أيت يمور التي نقلها من مواطنها بجبال الأطلس المتوسط إلى حوز مراكش[9].
وفي البلاد المزابية، تكلم الفقيه الحجاجي ضمن تعريفه بأعلام من فرقة أولاد بوزيد، عن البوار الذي عرفته كتلتها البشرية في هذه الفترة، وهم حلفاء بني مسكين ضمن اللف الأمراحي والفارسي. وقد سجلت لها الثقافة الشعبية تحملها أعباء كبيرة خلال الحركات الجهادية السالفة[10]، ومما قاله:
(..ويقولون أن السلطان الأكحل أخذ منهم خيلهم كانوا يربونها للمخزن لأنهم ما بقيت لهم نفس الكثرة والقوة.. وأعطاها لفرقة الكراطمة... أنزلهم في أرض لهم تسمى الحوض الزين، وفيها مراعي تسلم فيها الخيل من آفة درغموس.. ومثلهم أولاد فارس، أخذ خيلهم وأعطاها لفرقة أجبالة النازلين في حوض
بلغراف لكنه أرجعها لهم لما ظهر أن هذه الأرض لا تصلح فيها الخيل[11]).
وفي هذا المجال أيضا، يظهر أن البلاد المسكينية لم تشهد أية ممارسات حدية تستحق الذكر في هذا الميدان من طرف المولى إسماعيل. فقد وقفت من خلال الروايات الشفوية المحلية والقرائن التي حصلت عليها في الموضوع، على عدد من المؤشرات التي بينت أن الروابط المثينة التي درجت النخب المسكينية على تعميق أواصرها مع المخزن، كثيرا ما أبقت القبيلة في منأى عن أي عقاب عسكري، وخاصة منه انتزاع خيل بعضها.
وعلى العكس من ذلك، فقد كانت قصبة البروج مأوى لعدد من الفرق العسكرية السلطانية بكامل أسلحتها وخيولها[12]، بل منطلقا لعدة حركات عقابية ضد قبائل أخرى. كما حفظتهم العلاقات المتميزة، سابقة الذكر، من مساوئ الحركات المنشارية عبر الطرق المخزنية التي كانت جيوشه لا تتوقف عن التردد عليها، والحال أن طريق تامسنة المخزني يخترق بلادهم.
وأشير هنا إلى أن مسألة إحلال فرق قبلية من خارج البطن المحلي في جزء من أراضيها،كان يتم أحيانا بمبادرة من هذه القبائل نفسها، حيث تلجأ مضطرة، لإستقدام عشائر "برانية" لتعزيز الأكتاف وملئ الفراغات[13]. وقد رصدت واحدة منها عند لف أولاد علي بمنطقة بني مسكين الغربية، لكنها حدثت وفق ملابسات أكثر تعقيدا، حيث جاءت نتيجة لما بدأت تعرفه هذه البلاد بدورها من تنافس بين النخب الجديدة حول المهام المخزنية.
        وهي ممارسات لم تكن معهودة لدى فرق هذه القبيلة ، لدرجة تدفعني إلى التساؤل عما إذا كانت هناك أيدي من المخزن المركزي تدفع في هذا الإتجاه. وكان أوائل السلاطين السعديين قد ضربوا على هذا الوتر ضمن رؤيتهم بعين الريبة إلى قوة التحالف المسكيني المزابي، مما سبق ذكره، والتوجس من انضباط أطرافه مع المواثيق والعهود التي تسنده إلى درجة التقديس.
لتبيان ذلك، أستحضر أولا ما ترتب عن اشتداد هذا التنافس ما بين الأسر المخزنية داخل القبيلة المزابية، وما كان له من انعكاسات في القبيلة المسكينية. وقد تم ذلك بالقدر الذي بدأ يؤثر على السير العادي لحركة القوافل التجارية على المحور الأصلي لطريق تامسنة[14]، بل صار يهدد بسحب مقاليده من أيدي القيادات التي كانت تشرف عليه في كل من قبيلتي بني مسكين بزعامة أشياخ من لف أولاد ناجي
وأولاد فارس_أولاد أمراح.
ومن الروايات الشفوية الرائجة في صدده[15]، أن الشيخ المدني بوسلهام البخاري المنيعي، وهو من الأطر المخزنية الطارئة بالمنطقة،كان قد حاول القيام بتغيير وجهة هذه الطريق، وذلك في إطار تنافسه مع عشيرة أسرة أولاد خمليش الأمراحية. وكان ينسق في ذلك  مع حلفائه من أشياخ لف أولاد علي. فبدلا من انطلاق القوافل من القصبة الخمليشية نحو قصبة البروج ثم مشرع الحمري مرورا بقصبة أوللي عند أولاد فارس، نجده يعيد توجيهها انطلاقا من القصبة المنيعية نحو فرقة بني خلوك، الذين تحالف معهم، مرورا بالخشاشنة ونزالة بلحاج، ومنها إلى مشرع بوخرو للوصول بها إلى مراكش عبر طريق الرحامنة[16].
ويظهر أن هذه المحاولات الأولى قد باءت بالفشل بدليل استمرار توافد القوافل على قصبة البروج كما تثبثه الروايات الشفوية التي تعاملت معها، لكن استمرارها بوثيرة أشد في الفترات الموالية سيعطي للمسألة بعدا أكبر، وخاصة في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله.
وكان هذا الإجراء قد تزامن مع بروز أسلاف عشيرة آل الشافعي من فرقة أولاد العكارية[17]،  الذين تنسب رواية شفوية محلية عملية استقدامهم من الرحامنة إلى مبادرة اسماعيلية، بينما تردها روايات أخرى إلى المشايخ أنفسهم من لف "أولاد علي" في بني مسكين الغربية[18]. وعلى كل فقد استفاد الطرفان من هذه الحركة، حيث استرجع اللف المستضيف قوته السالفة، وحافظ على تسميته الأصلية، بينما وجد فيه الضيوف بدورهم ما بحثوا عنه من أسباب مادية لدورة جديدة من الحياة لفائدة أبنائهم وقطعانهم.
                وفي ضل هذا النوع من الترابط، صار على الوافدين الجدد لجوار فرق بني مسكين الغربية، الإنخراط في المواجهات التي كانت تندلع مع فرق المزامزة وأولاد بوزيري. وفي كنفه أيضا ظهرت القصبة الشافعيةكمنافس لقصبة البروج بعد قرن واحد من هذه الفترة[19]. وهناك مبادرة أخرى مماثلة تخص فرقة أولاد عامر في بني مسكين الشرقية سأتناولها في فقرة لاحقة وشيكا.
ويعرف أن جل المناطق الساحلية والسهول الداخلية، قد شهدت في هذا العهد واحدة من أكبر حركات التوافد والهجرة إليها في تاريخها. وكانت  منطلقاتها في الغالب، إما من التخوم الصحراوية أو الجبال الجرداء القريبة منها. دافعة أمامها قبائل مستقرة بها منذ عهود أقدم، حيث شكلت موجات المجاعة وفترات الجفاف التي تزايدت حدتها في هذه المجالات، الدافع الأساس لذلك[20].
 وإذا كان هذا الموضوع قد تم تناوله بإسهاب في الدراسات الجامعية المنجزة حول الأقاليم المحيطة ببني مسكين، وهي السراغنة والشاوية والرحامنة وتادلة وورديغة، فإنه لا زال يراوح مكانه بالنسبة لمنطقتنا، ونستثني من ذلك الإشارات التي تتضمنها مونوغرافية كارل لوطي في الموضوع[21].



[1]. ......................
[2]. ...........تاريخ الجيش المغربي ثريا برادة.......
[3]. .........بريغنون.................
[4]. ..................175. 176. 177....    ( 207 مهم)
[5]. .............الجيش ص 168.......
[6]. .................. الناصري ج9 ص19.
[7]. ..................الجيش ص .....138..........
[8]. الناصري، ج7، ص.62.
[9]. ......................
[10]. توجد في الثقافة الشعبية لهذه الفرقة، قصائد مغناة ترصد أحوالهم، وترسم حدود مجالهم القديم، وقد أوردت نماذج منها في كناب "خروج السمايم نقايم.." 
[11]. المقصود  هنا هو المولى إسماعيل، وهو من السلاطين الذين تصنفهم الروايات الشعبية بهذه التسمية ، ويزيد من تأكيد ذلك توفر فرقة الكراطمة على ظهير إسماعيلي بهذا التكليف.
[12] . ...........طوماس بيلاو...........
[13] . ..................
[14] . .............................
..............................
[15]. أنشأت مؤخرا فعاليات اجتماعية من خمالشة أولاد أمراح مركزا للأبحاث حول تاريخ هذه العائلة، ومن منجزاته الكشف عن عدد من وثائقها القديمة، وإنشاء مسرد للروايات الشفوية، أخذت منه ما يلزمني. وقد واجهتها بروايات الفقيه الحجاجي في نفس الموضوع، وهي أكثر تفصيلا، لأنه عاصر أجداد من روى عنهم هؤلاء بالتواتر.  
[16]. توجد قصبة عمار المنسوبة لإبن هذا الشيخ ويسمى القائد عمر قرب محاجر شركة هولسيم سيدي حجاج، وهو من اشتهر بفظائع جمة في معاملته للناس، تلخصها المرفودة القائلة (النار ولا عمار، عمار ولا ولدو، ولدو ولا عبدو، عبدو ولا عودو) وهي غير قصبة الطاهر بن البخاري القائمة لحد الآن قرب ضريح  لالا فاطنة الكحيلة.
[17]. يينتسب الشافعي المسكيني إلى فرقة اولاد العكارية ذات الأصول الصحراوية. وكانوا قد انتقلوا ضمن الهجرة الرحمانية في العهد السعدي من المناطق الصحراوية إلى إقليم حوز مراكش واستقروا بجوار سيدي بوعثمان جنوب مركز بن كرير. ويعود نسب العكارية لأمرأة تنتمي لقبيلة عكارة الصحراوية من الساقية الحمراء. وقد هاجرت هده المرأة لمنطقة بني مسكين رفقة أبنائها واستقرت حيث هم هناك وقد كانوا مهابي الجانب ، استطاعوا في وقت وجيز من فرض سيطرتهم على المنطقة مما دفع القبائل المجاورة إلى مصاهرتهم...( معلومات منشورة في موقع كوكل ضمن مادة البروج..)
[18]. وهم بني خلوك وأولاد افريحة وأولاد سالم وأولاد سيدي يحيى بن يعيش والخنانسة وأولاد العكارية.
[19].  نظرا للنقص الشديد في أعدادهم بسبب المجاعات والأوبئة
[20]. ................
[21]. ................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق